نبيل فكري .. يكتب: عن العبيد .. والهامش المُعتم

يشغلني كثيراً مفهوم الحرية والعبودية .. كلنا ندعيّ أننا أحرار، فقط لأن الموقف الكاشف لم يأتِ .. كلنا .. لا أستثني أحداً، ولا أنا .. نختلف فقط في درجة التحمل لأن الحرية مكلفة ومكلفة جداً، وقطعاً هنا لا أتحدث عن عبودية الأحرار «لله الواحد القهار».
ما يشغلني حقاً في هذه الإشكالية، هي دوافع رفض الأحرار للحرية .. هرولتهم إلى العبودية وهم سعداء، رفضهم المحير لأن يكونوا أحراراً .. لا أدري: هل هو اعتياد أم ماذا، لأن ذلك قد يحدث دونما ثمن .. قد يتشبثون بـ العبودية لأنها تستهويهم.
غالباً، وكما قال أحدهم، فإن موافقة المسترقين لا قوة الطاغية، هي التي تؤسس للعبودية، وإن القبول بها يأتي من الرغبة والأنانية والطمع .. أما أهم ما قاله، وقبله قالته الحياة: أن «الحرية إذا ذهبت، تذهب معها الشجاعة».
أجمل ما قيل في الفرق بين الأحرار والعبيد: إن الأحرار يدافعون عن أفكار، والعبيد يدافعون عن أشخاص .. إذا أردت أن تعرف العبيد، اُذكر أسيادهم بسوء.
الكاتب السعودي توفيق السيف كتب ذات مرة، أن الذين يرفضون الحرية، يبالغون في تضخيم الاستثناءات، حتى تنكمش القاعدة أو تتلاشى.
أما الخدعة الكبرى التي تمارسها عقولنا، ففيها يستولي الاستثناء على القاعدة، ويستولي الشرح على المتن بعد تغطيته بنصوص الهامش المعتمة، بحسب تعبير الدكتور معجب الزهراني.
يبدو أن ما قاله أفلاطون لا زال قائماً، فبعض العبيد سيحملون المظلات لو أمطرت السماء حرية .. هكذا الأمر حولنا .. الشارع بات مدعاة للضجر ولعدم الفهم، والتحولات التي تنتابه يومياً مفزعة، والناس تبدلوا بشكل غريب ومثير للتساؤل .. حتى وإن تحدثوا عن الحرية، إلا أن الكثيرين منهم لا يمارسونها بل ويرفضونها.
يُطل هذا الأرق برأسي في مواسم معتادة، انتابني مع حركة الشرطة الأخيرة، كما يحدث في تلك المناسبة غالباً -وهو ليس ذنب أهل الشرطة وفيهم كثيرون محترمون- إذ أسأل نفسي: لماذا هذا الإفراط في التهنئة، لأشخاص لا يَرَوْنَك، وإن رأوك لا يهتمون ولا يكترثون، وربما كل علاقتهم ببعض من هنأوهم أنهم مروا عليهم، بوجوههم أو «بأيديهم».
مناسبة تتجلى فيها «العبودية» وتطل من صخب الأغاني المضحكة التي يبث فيها الأذلاء معاني المحبة للأسياد: «لو قلنا تُوب المرجلة»، و«تسلم الإيد اللي ربت» وغيرها من الأغاني التي ترافق صوراً باهتة لشخوص كالحة .. هذا بالضبط «إكسير العبودية» التي تصل بأحد المتطوعين بالمدح، حد أن ينام قرير العين، لأن أحدهم تعطف وووافق على المديح.
في الانتخابات أيضاً يتجلى وجه آخر للعبودية . . مثلاً .. دعونا نتحدث عن واقع بدلاً من الافتراضات:
يترشح أحدهم .. قبلها لا أحد يعرفه، لا أنت ولا أنا، و«لا هو» .. حتى هو لا يعرف نفسه، ولا يعرف لماذا أتى أو ماذا يريد أو ماذا سيفعل .. لا شيء يهم .. يبدأ بعض المستعبدين شيئاً فشيئاً التكيف مع هذا الواقع .. يستولي الاستثناء على القاعدة، والشرح على المتن، بعد تغطيته بنصوص الهامش المعتمة.
بعدها تنهال سرديات «الصدق الكاذب»، فنكتشف أن هذا الذي لم يكن يعرف نفسه، كان من رموز الخير والعطاء، وأن رأس ماله محبة الناس، وأنه جاء ليتوج سنوات من العطاء، تحاول أن تتذكر تلك السنوات، فلا يطل من الذاكرة سوى سنوات عجاف، وتاريخ من الإجحاف.
جينات «العبودية»، تئن على صاحبها، حالة وجود «السيد» .. فالغلابة مع بعضهم يمارسون قدراً أكبر من الحرية العابثة، يرفضون وينظِّرون ويجادلون ويسألون، لكن في حالة ظهور «السيد» أو «شيء من ريحة السيد» ينتظمون في صفوف، ويسيرون في قطيع أمام «الخولي»، وهو «ظِلُّ السيد».
أذكر في انتخابات شاركت فيها من قبل، أن جاءني أحدهم .. أحد الرافضين للحرية إلا معي أو مع من يشبهه .. قال لي وقتها إنه يعمل بجريدة، ولم أكن أدري أن له علاقات بجرائد أكثر من المرور أمامها، لكن هكذا «العبث» حين نمارس الحرية مع بعضنا .. المهم .. عرض عليّ بطريقته «حملة إعلانات» يصنعها لي، بمقابل طبعاً.
الأمر كان مدهشاً ومضحكاً ربما، فهذا هو الباب الوحيد الذي لا يمكنك أن تأتيني من خلاله، هي مهنتي التي أعلم تفاصيلها وأسرارها وحتى سوءاتِها .. المهم سألته أسئلة عابرة لم تكن لديه إجابات عنها رغم بساطتها .. من عينة «نوع الصحيفة .. ستاندر أم تابلويد»، والصفحات التي يعرضها عليّ ألوان ولّا «أبيض واسود» .. أسئلة رغم بساطتها لم يجب عنها، وأرجأ الرد حتى يسأل صاحب تلك الجريدة، التي لم يقل اسمها ولا عنوانها، وذهب ولم يعد.
التقيته صدفةً بعدها .. يبدو غاضباً .. مستاءً ربما من رفضي أو حتى تساؤلي، لكن اللافت في كل مرة التقيته فيها، ورغم بلاهة العرض، أنه كان معتداً بنفسه، تساورك الشكوك بشأن حقيقته، ولكن الحقيقة أنه هكذا لأنه معي .. مع مكافيء .. مع ند.
منذ أيام رأيته .. هذا الذي تقمص دور الصحفي، يعرض عليّ حملة إعلانية .. المعتد بنفسه، مَن يمارس في حضوري الحرية بمنتهاها .. رأيته في أحد مواكب العبث، رأيته يحمل طبلاً كبيراً «وزمارة» ضخمة، يهتف مع «المغيبين» الرافضين لممارسة الحرية مع أشباههم.
مؤرق أن تنسى كل ما مضى، دون أن تعرف لماذا، مستعيناً بشعارات اخترعتها أنت لتضحك على نفسك .. مؤلم أن أراك تتخلى عن «براح» الحرية، لتتكدس في زحام الهتاف الأجوف .. أخشى أنهم لا ينظرون في المرآة، أو في عيون أطفالهم حين يعودون من مراسم العبودية.
اقرأ أيضاً: نبيل فكري .. يكتب: الفشل الذكي !!
اقرأ أيضاً: نبيل فكري .. يكتب: في قلب العاصفة .. كلنا «ياسين» .. وهذا ما يحدث في «الكرمة»






